كيف اتوب من الذنب المتكرر، إن من رحمة -الله تعالى- بعباده أنه ترك لهم باب التوبة مفتوحًا، وجعل تكرار الوقوع في الذنب لا يمنع من التوبة منه، لذلك يهتم في الحديث عن كيف اتوب من الذنب المتكرر، وعن الذنوب وأنواعها ومكفراتها وآثارها على الفرد والمجتمع، وفي الحديث عن التوبة ومعلومات كثيرة متعلقة بها.

مفهوم الذنب

قبل أن نعرف كيف نتوب من الذنب المتكرر، سنقوم بتعريف الذنب، فالذنب لغةً هو الاثم والجرم والمعصية، ويقال قد أذنب الرجل، أي صار ذا ذنب، ويطلق الذنب على كل أمر غير مشروع يرتكب، والذنب اصطلاحًا قال الجرجاني “الذنب ما يحجبك عن الله تعالى”، وقال المراغي في تفسيره “الذنب هو التقصير في المعاملة بين العبد وربه”، وقال الشنقيطي “الذنب هو الجريمة التي يستحق صاحبها النكال”، ويمكن تعريف الذنب بأنه كل فعل يستقبح شرعًا، ويستحق صاحبه العقوبة من الله تعالى، وقد ذكر الله تعالى الذنب في القرآن سبع وثلاثين مرة، فذكره في صيغة المفرد إحدى عشرة مرة، كما في قوله تعالى {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ}، وذكره في صيغة الجمع ست وعشرون مرة، كما في قوله تعالى {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ}.

كيف اتوب من الذنب المتكرر

بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم التائبين ببشرى عظيمة، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال “التائبُ من الذنبِ كمن لا ذنبَ لهُ”، فإن تكرار الوقوع في الذنب لا يمنع من التوبة منه، وأن التوبة هي العزم على عدم العودة للذنب وليس عدم الوقوع فيه، فإذا رجع المرء للوقوع في نفس الذنب لم تهدم توبته السابقة، لكن عليه تجديد التوبة، قال النووي رحمه الله “لو تكرر الذنب مائة مرة أو ألف مرة أو أكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته وسقطت ذنوبه، ولو تاب عن الجميع توبة واحدة بعد جميعها صحت توبته”، وقال ابن دقيق العيد رحمه الله “فلو فعل الإنسان مثل هذا في اليوم مراراً وتاب التوبة بشروطها فإن الله يغفر له”،

فعلى المسلم أن يحسن الظن بالله عز وجل، ويتيقن بأن الله يقبل عبادة العابدين، وتوبة التائبين، قال تعالى {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، وقال جل جلاله {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “قالَ اللَّهُ تعالى يا ابنَ آدمَ إنَّكَ ما دعَوتَني ورجَوتَني غفَرتُ لَكَ على ما كانَ فيكَ ولا أُبالي، يا ابنَ آدمَ لو بلغَت ذنوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثمَّ استغفرتَني غفرتُ لَكَ ولا أبالي، يا ابنَ آدمَ إنَّكَ لو أتيتَني بقِرابِ الأرضِ خطايا ثمَّ لقيتَني لا تشرِكُ بي شيئًا لأتيتُكَ بقرابِها مغفرةً”،

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال “إنَّ عَبْدًا أصابَ ذَنْبًا ورُبَّما قالَ أذْنَبَ ذَنْبًا فقالَ رَبِّ أذْنَبْتُ ورُبَّما قالَ أصَبْتُ فاغْفِرْ لِي، فقالَ رَبُّهُ أعَلِمَ عَبْدِي أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ ويَأْخُذُ بهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ ما شاءَ اللَّهُ ثُمَّ أصابَ ذَنْبًا، أوْ أذْنَبَ ذَنْبًا، فقالَ رَبِّ أذْنَبْتُ أوْ أصَبْتُ آخَرَ، فاغْفِرْهُ فقالَ أعَلِمَ عَبْدِي أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ ويَأْخُذُ بهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ ما شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أذْنَبَ ذَنْبًا، ورُبَّما قالَ أصابَ ذَنْبًا، قالَ قالَ رَبِّ أصَبْتُ أوْ قالَ أذْنَبْتُ آخَرَ، فاغْفِرْهُ لِي، فقالَ أعَلِمَ عَبْدِي أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ ويَأْخُذُ بهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثَلاثًا، فَلْيَعْمَلْ ما شاءَ”.

أنواع الذنوب

بعد أن تعرفنا على كيف نتوب من الذنب المتكرر، سنتعرف على أنواع الذنوب، فقد خلق الله عز وجل الإنسان مجبولًا على النقص والعيب، فلما كان الإنسان كذلك، كان لا بد له من ذنوب ومعاصٍ، وتنقسم هذه الذنوب والمعاصي إلى ثلاثة أقسام رئيسة، هي كما يلي/

ذنوب لا تغفر

إن أعظم الذنوب عند الله هو الشرك بالله سبحانه وتعالى، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه “قُلتُ يا رَسولَ اللَّهِ، أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ قالَ أنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وهو خَلَقَكَ“، والشرك ذنب لا يغفره الله أبدًا لمن مات عليه بغير توبة، قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}، وقال أيضًا {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}، وكذلك من الذنوب التي لا تغفر لمن مات عليها الكفر بالله تعالى، كمن يسب الله تعالى أو يهزأ بشرعه ودينه، فقال الله سبحانه وتعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}، فهذه الذنوب لا يغفرها الله لمن مات عليها دون توبة، وصاحبها مخلد في النار أبدًا والعياذ بالله، أما من تاب، تاب الله عليه، وآتاه الله أجره وثوابه مهما بلغت ذنوبه وسيئاته، فقال سبحانه وتعالى {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.

كبائر الذنوب

وهي كل ما ترتب عليه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، ومن هذه الكبائر ما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم “اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ قالوا يا رَسُولَ اللَّهِ، وَما هُنَّ قالَ الشِّرْكُ باللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَومَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلَاتِ”، والكبائر دون النوع الأول في الجرم، إلا أن الله توعد أصحابها بالعذاب يوم القيامة، وصاحبها مستحق للعذاب في النار إن مات عليها بغير توبة، فإن شاء الله أنفذ وعيده وعذبه، وإن شاء عفا عنه، أما من تاب وأصلح، فإن الله يعفو عنه ويغفر له، ومرتكب الكبائر لا يخلد في النار خلافًا لصاحب النوع الأول، فإنه خالد في النار،

وهناك نوع من الكبائر يتعلق بحقوق العباد، كالمظالم من سفك الدم، وغصب الأموال، وانتهاك الأعراض، وغيرها من هذه الحقوق، فإن هذه الذنوب لا يغفرها الله لصاحبها حتى يستبرئ ذمته من أصحابها، ويؤدي الحقوق إلى أهلها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “مَن كانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لأخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْها، فإنَّه ليسَ ثَمَّ دِينارٌ ولا دِرْهَمٌ، مِن قَبْلِ أنْ يُؤْخَذَ لأخِيهِ مِن حَسَناتِهِ، فإنْ لَمْ يَكُنْ له حَسَناتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئاتِ أخِيهِ فَطُرِحَتْ عليه”، وهذا النوع من الذنوب الكبيرة لا بد له من توبة خالصة، فلا بد للكبائر من توبة مخصوصة.

صغائر الذنوب

صغائر الذنوب وهي السيئات، وهي ما كانت دون الكبائر في الجرم والإثم، كالنظرة المحرمة، وما يصيبه المسلم من أخطاء وزلات في حياته، فهذا النوع يغفره الله تعالى لعبادة دون توبة مخصوصة منها، فقد جعل لها مكفرات كثيرة تمحى بها هذه السيئات.

مكفرات الذنوب

لا بد لمن اراد معرفة كيف نتوب من الذنب المتكرر، أن يتعرف على مكفرات الذنوب، فمن رحمة الله بعباده أن هيأ لهم أسبابًا يكفر بها عنهم الذنوب، ويمحوها، وقد شرعها في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك/

  • الإيمان بالله وتوحيده والعمل الصالح، قال تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
  • اجتناب الكبائر من الذنوب، قال تعالى {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا}.
  • التوبة الصادقة، قال تعالى {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}.
  • الاستغفار، قال تعالى {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}.
  • الوضوء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “مَنْ تَوَضَّأَ فأحسنَ الوُضوءَ، ثُمَّ صلَّى ركعتينِ، لَا يسهو فيها، غُفِرَ لَهُ ما تقدَّم مِنْ ذنبِهِ“.
  • الصلاة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “أَلا أدُلُّكُمْ علَى ما يَمْحُو اللَّهُ به الخَطايا، ويَرْفَعُ به الدَّرَجاتِ قالُوا بَلَى يا رَسولَ اللهِ، قالَ إسْباغُ الوُضُوءِ علَى المَكارِهِ، وكَثْرَةُ الخُطا إلى المَساجِدِ، وانْتِظارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّباطُ”
  • الصدقات، قال تعالى {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
  • الحج والعمرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “تابِعوا بين الحجِّ و العُمرةِ ؛ فإنَّهما يَنْفيانِ الذُّنوبَ كما يَنفِي الكِيرُ خبثَ الحديدِ”.
  • المصائب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “قَارِبُوا، وَسَدِّدُوا، فَفِي كُلِّ ما يُصَابُ به المُسْلِمُ كَفَّارَةٌ، حتَّى النَّكْبَةِ يُنْكَبُهَا، أَوِ الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا”.
  • صيام رمضان وقيامه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “مَن صَامَ رَمَضَانَ، إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ”، وقال صلى الله عليه وسلم “من قام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا ؛ غُفر له ما تقدمَ من ذنبِه“.

آثار الذنوب والمعاصي على الفرد والمجتمع

إن الذنوب والمعاصي لها عواقب وخيمة، وآثار سيئة على الفرد والمجتمع، فمن آثارها على الفرد، أنها سبب لحرمانه العلم والرزق، كما أنها سبب لتعسير الأمور عليه، فلا يكاد يتوجه لأمر إلا يجده مغلقاً دونه، أو متعسراً عليه، ومن آثارها تلك الظلمة التي يجدها العاصي في قلبه، ومن آثارها أنها تزرع أمثالها، ويولد بعضها بعضاً، حتى يعز على العاصي مفارقتها، وكذلك فإنها تضعف القلب عن إرادته، وتقوي فيه حب وإرادة المعصية، وتضعف إرادته وحبه للتوبة شيئاً فشيئاً إلى أن تنسلخ من قلبه إرادة التوبة بالكلية، وهي سبب لهوان العبد على ربه، وسقوطه من عينه، وتُدخل العبد تحت لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن آثارها على المجتمع، أنها تحدث في الأرض أنواعًا من الفساد، وهي سبب من أسباب الخسف والزلازل، وكذلك فإن شؤمها وضررها ليس مقتصراً على العاصي فقط، وإنما متعدي إلى غيره من الجمادات والحيوانات، ومن أثرها على المجتمع أنها سبب للتمزق والتفرق والاختلاف.

تعريف التوبة

التوبة لغةً الرجوع عن الذنب، يقال تاب من ذنبه، أي رجع عنه، وتاب الله عليه وفقه للتوبة، والتائب يقال لباذل التوبة ولقابل التوبة، فالعبد تائب إلى الله، والله تائب على عبده، والتواب العبد الكثير التوبة، وقد يقال ذلك لله تعالى، لكثرة قبوله توبة عباده، والتوبة اصطلاحًا الرجوع عن الأفعال المذمومة إلى الممدوحة، والتوبة النصوح ألا يبقي على عمله أثرًا من المعصية، سرًّا وجهرًا، قال الطبري رحمه الله “التوبة من العبد إلى ربه إنابته إلى طاعته، وأوبته إلى ما يرضيه بتركه ما يسخطه من الأمور التي كان عليها مقيمًا مما يكرهه ربه، فكذلك توبة الله على عبده هو أن يرزقه ذلك، ويتوب من غضبه عليه إلى الرضا عنه، ومن العقوبة إلى العفو والصفح عنه”، وقد ذكر الله تعالى التوبة في القرآن الكريم 87 مرة، وجاءت التوبة في القرآن على وجهين أحده الندم على فعل الشيء والرجوع عنه، كقوله تعالى {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}،والثاني التجاوز، كقوله تعالى {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا}.

حكم التوبة

بعد أن تعرفنا على كيف اتوب من الذنب المتكرر، وعلى الذنوب وما يتعلق بها، سنتعرف على حكم التوبة، التوبة من المعصية واجبة شرعًا على الفور باتفاق الفقهاء، فلا يجوز تأخيرها، لأنها من أصول الإسلام المهمة وقواعد الدين، وأول منازل السالكين، قال الله تعالى {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، يقول ابن القيم رحمه الله “المبادرة إلى التوبة من الذنب فرض على الفور ولا يجوز تأخيرها، فمتى أخرها عصى بالتأخير، فإذا تاب من الذنب بقي عليه توبة أخرى، وهي توبته من تأخير التوبة”، فعلى العبد أن يحرص على تعجيل التوبة حتى لا يألف المعصية وتصبح راناً على قلبه.

أنواع التوبة

تنقسم التوبة إلى ثلاثة أنواع، وهي

  • التوبة الصحيحة وهي أن يقترف العبد ذنباً، ثم يتوب منه بصدق.
  • التوبة الأصح وهي التوبة النصوح، وعلامتها أن يكره العبد المعاصي، ويستقبحها فلا تخطر له على بال، وينزه قلبه عن الذنوب.
  • التوبة الفاسدة وهي التوبة باللسان، مع بقاء لذة المعصية في القلب.

شروط التوبة

لن تكون التوبة صحيحة مقبولة حتى تتحقق فيها شروط تثبت صدق التائب في توبته، ومن هذه الشروط/

  • أن تكون خالصة لله عز وجل لأن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا له وحده مبتغى به وجهه.
  • الإقلاع عن المعصية فيجاهد التائب نفسه لاقتلاع جذور الشر من قلبه، حتى يصبح نقيًا خالصًا صافيًا، تصدر عنه أعمال الخير بنية صالحة مقبولة عند الله.
  • الندم على ما سلف منه في الماضي والإقلاع عنه في الحال، والعزم على ألا يعاود الذنب في المستقبل.
  • عدم الإصرار على المعصية لأن التوبة مع الإصرار، توبة الكذابين الذين يهجرون الذنوب هجرًا مؤقتًا، يتحينون فيها الفرص المواتية لمعاودة الذنب.
  • أن التوبة كما تكون بالقلب واللسان تكون أيضًا بالعمل الصالح الذي يكون ترجمة عملية لما في قلب الإنسان.
  • أن يستمر التائب في توبته ولا يأتي بما ينقضها ويخالفها إذ الاستمرار في التوبة شرط في صحة كمالها ونفعها.
  • أن تصدر في زمن قبولها وهو ما قبل حضور الأجل، وطلوع الشمس من مغربها.
  • رد الحقوق إلى أصحابها أو التحلل وطلب العفو منهم، إذا كانت المعصية متعلقة بحقوق الآدميين.

الأمور المعينة على التوبة

هناك العديد من الأمور التي تعين العبد على التوبة الصادقة النصوح، منها/

  • استحضار عظمة الرب تبارك وتعالى وأنه المنعم، وأن هذه النعم تستوجب الشكر، ومن أعظم الشكر طاعة الرب تبارك وتعالى، فالإقامة على المعاصي كفر بهذه النعمة، والشكر يكون بالتوبة منها.
  • تذكر خطورة الذنوب والمعاصي وأنها السبب لسخط الله تعالى، والسبب لكثير من المصائب التي تصيب الإنسان في الدنيا، قال تعالى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}.
  • استحضار أهمية التوبة ووجوب المبادرة إليها قبل أن يباغت الإنسان الموت، فيلقى الله تعالى بصحيفة مليئة بالمعاصي والسيئات.
  • تيقن المسلم وقوفه بين يدي ربه تعالى فيسأله عن كل صغيرة وكبيرة قد سجلها الكتبة الحافظون، كما قال سبحانه {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ}.
  • حفظ القرآن فهو مما يعين على التوبة والاستقامة إذا أخلص صاحبه النية والقصد، وأتبع الحفظ بالعمل، ومثل ذلك فعل القربات والانشغال بطلب العلم الشرعي.
  • صحبة الأخيار فهم مما يعين على الثبات على طريق الحق.

فضل التوبة

التوبة إلى الله تعالى لها فضائل عديدة، منها

  • أنها سبب جالب لمحبة الله عز وجل، قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}.
  • أنها سبب الفلاح، قال تعالى {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
  • أنها سبب لقبول أعمال العبد والعفو عن سيئاته، قال تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ}.
  • أنها سبب لدخول الجنة والنجاة من النار، قال تعالى {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا}.
  • أنها سبب للمغفرة والرحمة، قال تعالى {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
  • أنها سبب في تبديل السيئات إلى حسنات، قال تعالى {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}.
  • أنها سبب لكل خير، قال تعالى {فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}.
  • أنها سبب للإيمان والأجر العظيم، قال تعالى {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}.
  • أنها سبب في نزول البركات من السماء وزيادة القوة، قال تعالى {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ}.
  • أنها سبب في دعاء الملائكة للتائبين، قال تعالى {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}.
  • أنها فعل لما يريده الله عز وجل ويحبه ويرضاه، قال تعالى {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ}.
  • أن الله يفرح بتوبة العبد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِن أَحَدِكُمْ كانَ علَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فلاةٍ، فَانْفَلَتَتْ منه وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فأيِسَ منها، فأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا، قدْ أَيِسَ مِن رَاحِلَتِهِ، فَبيْنَا هو كَذلكَ إِذَا هو بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قالَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ”.

دعاء التوبة

كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم كثير الاستغفار، وهناك العديد من الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن الاستغفار والتوبة من الذنوب، ومن هذه الأدعية

  • “اللَّهمَّ أنتَ ربِّي، لا إلَهَ إلَّا أنتَ، خَلقتَني وأَنا عبدُكَ، وأَنا على عَهْدِكَ ووعدِكَ ما استطعتُ، أعوذُ بِكَ من شرِّ ما صنعتُ، وأبوءُ لَكَ بنعمتِكَ عليَّ، وأعترفُ بِذنوبي، فاغفِر لي ذنوبي إنَّهُ لا يَغفرُ الذُّنوبَ إلَّا أنتَ”.
  • “رَبِّ اغْفِرْ لي خَطِيئَتي وجَهْلِي، وإسْرَافِي في أمْرِي كُلِّهِ، وما أنْتَ أعْلَمُ به مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي خَطَايَايَ، وعَمْدِي وجَهْلِي وهَزْلِي، وكُلُّ ذلكَ عِندِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي ما قَدَّمْتُ وما أخَّرْتُ، وما أسْرَرْتُ وما أعْلَنْتُ، أنْتَ المُقَدِّمُ وأَنْتَ المُؤَخِّرُ، وأَنْتَ علَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ”.
  • “اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، ولَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أنْتَ، فَاغْفِرْ لي مَغْفِرَةً مِن عِندِكَ، وارْحَمْنِي، إنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ”.
  • “اللَّهمَّ اغفِر لي وارحَمني وارزُقني وعافِني”.
  • “اللَّهُمَّ لكَ أسْلَمْتُ، وبِكَ آمَنْتُ، وعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وإلَيْكَ أنَبْتُ، وبِكَ خَاصَمْتُ، وإلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لي ما قَدَّمْتُ وما أخَّرْتُ، وأَسْرَرْتُ وأَعْلَنْتُ، أنْتَ إلَهِي لا إلَهَ لي غَيْرُكَ”.

صلاة التوبة

إن من رحمة الله تعالى بهذه الأمة أن فتح لها باب التوبة، ومن رحمته تعالى بهذه الأمة كذلك أن شرع لهم عبادة من أفضل العبادات، يتوسل بها العبد المذنب إلى ربه، رجاء قبول توبته، وهي صلاة التوبة، فقد أجمع أهل العلم على مشروعية صلاة التوبة، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “ما من عبدٍ يُذْنِبُ ذنبًا فيتوضأُ، فيُحْسِنُ الطُّهورَ ثُمَّ يقومُ فيُصلِّي ركعتينِ، ثُمَّ يستغفرُ اللهَ بذلكَ الذنبِ، إلَّا غُفِرَ لَهُ”، وتشرع صلاة التوبة عند توبة المسلم من أي ذنب، سواء كان من الكبائر أم من الصغائر، وسواء كانت هذه التوبة بعد اقتراف المعصية مباشرة، أم بعد مضي زمن، وصلاة التوبة ركعتان، ويشرع للتائب أن يصليها منفرداً، لأنها من النوافل التي لا تشرع لها صلاة الجماعة، ويندب له بعدها أن يستغفر الله تعالى، وهذه الصلاة تؤدى في جميع الأوقات، بما في ذلك أوقات النهي، ويستحب للتائب مع هذه الصلاة فعل بعض القربات، كالصدقة وغيرها.

عوائق التوبة

وقبل نهاية مقال كيف اتوب من الذنب المتكرر، سنتعرف على عوائق التوبة، هناك العديد من الأسباب التي تعيق التوبة وتمنع العبد من تحقيقها في قلبه، منها

  • التسويف في التوبة وذلك بعدم المسارعة إليها عند ارتكاب الذنب، مما يؤدي إلى تراكم الران على قلب العاصي، وعدم قدرته على الإقلاع عن الذنب، بسبب تمكّن المعصية في قلبه واعتياده عليها.
  • ترك التوبة خوفًا من لمز الناس حيث يعتبر البعض أن الملتزم بأحكام الدين والاستقامة ضعيفًا، فيقترف الذنب من أجل لا يساء به الظن بزعمه.
  • ترك التوبة مخافة سقوط المنزلة وذهاب الجاه والشهرة.
  • التمادي في الذنوب اعتمادًا على سعة رحمة الله فمن الناس من يصر على المعصية، فإذا عوتب أو زجر عما هو فيه قال إن الله غفور رحيم.
  • الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي وهذا حال الفاسقين والكفار، ويعد ذلك من أخطر الأمور على العبد.